فضاء حر

مدينة الله المحاصرة

يمنات
تبدو صنعاء المعبر الاضطراري لكل طامح يبحث عن الشرعية او السلطة. كان الطامعون القدامي يعلنون سلطتهم انطلاقا من منبر جامعها الكبير، لكنهم الان يسعون لها من هضبة التلفزيون وقصر الرئاسة.
وحتى يومنا هذا لا زال الصراع على السلطة القدر الذي يشكل مصيرها.
كم مرة حوصرت واجتيحت ونهبت؟
اكثر من 20 مرة! في بعض المرات دمرت صنعاء و اصبحت منازلها اطلالا.
كانت حادثة نهبها عام 1948 أكثرها التصاقا بالذاكرة. ولا زالت سمسرة محمد بن الحسن شاهدا ذا دلالة على المدينة المحاصرة والمجد الغائب. كانت السمسرة بمثابة “بنك” صنعاء و اضخم مبانيها، وتم تدميرها انذاك ولازالت خرابا حتى الان!
اما النهب الاخير في 21 سبتمبر 2014 فليس الا حلقة تاريخية في سلسلة طويلة قد لا تنتهي!
• المدينة المحاصرة:
رفعت المدينة سورها الترابي و احكمت اغلاق بواباتها السبع ولم يحمها ذلك من غزو طامعي السلطة ومقاتلي القبيلة. بنت بيوتها متلاصقة وحولتها الى سور يدور حول المدنية من طرفها الى طرفها .. قلصت من حجم ابوابها وحجم شبابيكها حتى اضحت مجرد فتحات صغيرة في الجدران .. ولكن الغزو والتدمير لم يتوقف.
كان لصنعاء سبعة أبواب، وتحيط بها سبع قبائل لتدخل كل قبيلة من الباب المخصص لها .. لكن المطامع كانت اوسع من الابواب..
يتحالف الطامعون في الحكم مع القبائل المحيطة لاجتياح المدينة المحاصرة. اطماع السلطة واقتصاد الحرب الذي تعيش عليه القبائل الفقيرة حولت صنعاء الى مدينة محاصرة او مدينة في حالة خوف مستمر من النهب والاجتياح منذ تأسيسها قبل مئات السنين حتى سبتمبر الاسود الماضي الذي شهد سقوط الدولة بسقوط صنعاء.
من هذا الجوار المتوتر نشأ داخل الوعي الصنعاني ذلك التوجس وعدم الثقة في “الاخر”. “الاخرون”هم الزبائن الأساسيون لسوق صنعاء، لا يمكن ان ينتعش السوق بدونهم. الصنعاني هو البائع و “الاخر” هو المشتري. لكن عندما تتحول علاقة البيع والشراء الى علاقة الغازي والمغزو لا تملك صنعاء الكثير للدفاع عن نفسها. تفتح ابوابها للغازين وتنتظر ما الذي يبقى..
(واحدة من اللحظات التاريخية النادرة التي قاومت صنعاء فيها الغزو كانت فترة حصار السبعين 1968. تلك البطولة التاريخية للناس والمكان وأحلام الثورة ضد غزو المرتزقة ورجعيي العصور الوسطى الممولين بأموال النفط. و أوهام المذهب)
• ثنائية الواقع والأسطورة:
لم تترك صنعاء وسيلة للدفاع إلا واتخذتها : السور، الباب، القانون الحضري، التعالي على المحيط القبلي، والصلوات المبللة بالدموع في صحن الجامع الكبير..
في الاخير: لم تستطع المدينة الحضرية القتال دفاعا عن نفسها فدافعت عن نفسها بالأساطير.
لجا ابناؤها وشعراؤها ومؤرخوها الى اضفاء القداسة على المدينة. اختراع قداسة تضارع مكه والمدينة واورشليم.
استدعى ابناؤها انبياء البشرية لاعادة بنائها من جديد..
بناها سام بن نوح فكانت بيوتها اول بيوت ترتفع بعد الطوفان. ثم جاء نبي الله هود وحفر اول ابارها. وزارها المسيح عيسى بن مريم واسس فيها اول كنيسة.
(حدثني غسان بن ابي عبيد البصري قال: دخل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام صنعاء ، وصلى في موضع الكنيسة فاتخذ النصارى كنيسة بصنعاء على اثر مصلاه.)
لم يساهم الانبياء في بناء بيوتها فقط، بل اسسوا الحرف والمهن في سوقها الخالد. والمعلمون الأوائل للحرف ليسوا أشخاص عاديين أو مجرد أسطوات ، ولكنهم أنبياء: داود كان حدادا ونوح كان نجارا ومنهما اخذ معلموا صنعاء مهن الحدادة والنجارة!
واتى (وهب بن منبه) المؤرخ الاسطوري والمؤسس الاعظم ل”ايديولوجيا” الهوية اليمنية ليحجز لصنعاء مكانها المقدس في الكتب المقدسة:
( قال وهب بن منبه: قرأت في الكتب التي انزلها الله تعالى فاذا فيها : أزال كل عليك وانا اتحنن عليك. أزال بورك فيك وفيما حواليك”)
(سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب ان عيسى بن مريم قال: “يا معشر الحواريين بحق اقول لكم انه سيخرج من المدينة التي تسمى أزال رجل من زرع يعقوب من بعد ما يهلك الله ملوك الأرض، معه سبعة وسبعون قدوسا مباركين بالبركة التي بارك الله فيها على اسحاق ويعقوب”)
الى جانب موسى وعيسى لم ينس المؤرخون والقصاص اليمنيون نبي الله سليمان. فأرادوا له ان يأتي الى جبل نقم (الحارس الشرقي للمدينة) ليحبس فيه الجن العاصين، وليبدا اهالي صنعاء علاقة حذرة مع الجن المجاورين لا تقل حذرا عن علاقتهم مع القبائل المحاصرين!
• وهمية القداسة وواقعية الخراب:
ذهبت اساطير “الجاهلية” واتت اساطير الاسلام، وجاء دور النبي محمد ليواصل مسيرة تقديس المدينة .. اخترع ابناء المدينة عشرات الاحاديث النبوية لتعطيهم يقينا هشا بان مدينتهم المحاصرة والمغزوة ستكون في امان.
( قال رسو ل الله ص: يقول الله عز وجل: ” أزال كل عليك وانا اتحنن عليك. “)
في القرن الخامس الهجري قرر مثقف صنعاني تاليف كتاب عن صنعاء. ملأ مؤرخنا القروسطي كتابه بالمرويات والحكايات والأحاديث الموضوعه التي تؤكد ان صنعاء محفوظة من كل شر..وبعد ان انتهى من سرد مروياته انتقل الى فصل آخر يقول فيه:
“… وقد خربت صنعاء وعادت وهي اليوم خراب وارجو الله تعالى ان يعمرها بالصالحين من عباده”!!
ان ثنائية الخراب والأعمار تحكم تاريخ المدينة منذ نشوئها حتى الان..
استمر اهالي صنعاء في بنائها وتعميرها
واستمر الغزاة في القدوم والتدمير
من حائط الكاتب على الفيس بوك
واستمر مؤرخوها في نقل واختراع المرويات التي تؤكد انها محفوظة من كل شر..
( قال ابو المقدام اسماعيل بن سليمان بن سروش: سمعت وهبا يقول: ما اراد صنعاء احد بسوء في الجاهلية او في الاسلام الا رد الله كيده في نحره!)
لا يصدق سكان صنعاء قدر مدينتهم القاسي، فيهربون من واقعية الخراب الى وهمية القداسة واقاصيص ” المدينة المحفوظة من كل شر”!
• مدينة الله:
انها مدينة الله بالنسبة لهم .. لهذا سكنوا على ثلثها فقط اما ثلثي المدينة فقد اوقفوهما الى الله..
نعم…كان ثلثي مساحة صنعاء عبارة عن ممتلكات وقفية من المساجد الى الاسواق والشوارع والبساتين..الوقف ملك الله، وبالتالي فهي مدينة الله لا مدينة البشر. إنها ممنوحة لله، وتعيش باسمه.
لقد نهبت مدينة الله سابقا باسم السلطة، والنهب الان مستمر باسم “الثورة” و”العتره”.
انها مدينة الله المنهوبة!
• صنعاء مدينة العالم:
تبدو صنعاء محكومة بحالتي الصراع والحصار… الغزو والنهب
وها نحن نعيش الان تجليات هذا القدر للطامع الاخير على السلطة القادم على حصان القبيلة والطائفة والسلالة
لكن ابناءها لم يقتنعوا ابدا بهذا القدر
تظل صنعاء بالنسبة لهم هي مدينة الله ومدينة العالم الى ان تقوم القيامه وينتهي الناس والأيام..
(عن عبد الرزاق عن ابراهيم بن محمد بن علقمة بن مرثد قال: قال رسول الله ص: “لن تذهب الليالي والايام حتى تكون صنعاء اعظم مدينة في ارض العرب”)
ستظل صنعاء ممزقة بين عظمة الاسطورة وبؤس الواقع، وسنظل ندافع عنها بالاساطير حتى اشعار آخر..
(ملحوظة: الاقتباسات والمرويات ماخوة من كتاب “تاريخ صنعاء” ل”احمد بن عبد الله الرازي”، المؤرخ الصنعاني من القرن الخامس الهجري .. واغلبها تنتمي للتاريخ الاسطوري لا التاريخ الحقيقي).

زر الذهاب إلى الأعلى